.تفسير الآية رقم (68):
{أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ}.تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ امْتِنَانًا عَظِيمًا عَلَى خَلْقِهِ بِالْمَاءِ الَّذِي يَشْرَبُونَهُ، وَذَلِكَ أَيْضًا آيَةٌ مِنْ آيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى عَظَمَتِهِ وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ وَشِدَّةِ حَاجَةِ خَلْقِهِ إِلَيْهِ، وَالْمَعْنَى: أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِينَ تَشْرَبُونَ، الَّذِي لَا غِنَى لَكُمْ عَنْهُ لَحْظَةً، وَلَوْ أَعْدَمْنَاهُ لَهَلَكْتُمْ جَمِيعًا فِي أَقْرَبِ وَقْتٍ:
{أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} [56/ 69].وَالْجَوَابُ الَّذِي لَا جَوَابَ غَيْرُهُ- هُوَ أَنْتَ يَا رَبَّنَا، هُوَ مُنْزِلُهُ مِنَ الْمُزْنِ، وَنَحْنُ لَا قُدْرَةَ لَنَا عَلَى ذَلِكَ. فَيُقَالُ لَهُمْ: إِذَا كُنْتُمْ فِي هَذَا الْقَدْرِ مِنْ شِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ تَعَالَى فَلِمَ تَكْفُرُونَ بِهِ وَتَشْرَبُونَ مَاءَهُ وَتَأْكُلُونَ رِزْقَهُ وَتَعْبُدُونَ غَيْرَهُ.وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنَ الِامْتِنَانِ عَلَى الْخَلْقِ بِالْمَاءِ وَأَنَّهُمْ يَلْزَمُهُمُ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَطَاعَتُهُ شُكْرًا لِنِعْمَةِ هَذَا الْمَاءِ، كَمَا أَشَارَ لَهُ هُنَا بِقَوْلِهِ:
{فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ} [56/ 70]- جَاءَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} [15/ 22]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} [16/ 10]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} [25/ 48- 49]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا} [77/ 27]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.وَقَوْلُهُ هُنَا:
{لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا} [56/ 70]، أَيْ لَوْ نَشَاءُ جَعْلَهُ أُجَاجًا لَفَعَلْنَا، وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ عَذْبًا فُرَاتًا سَائِغًا شَرَابُهُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ أَنَّ الْمَاءَ الْأُجَاجَ هُوَ الْجَامِعُ بَيْنَ الْمُلُوحَةِ وَالْمَرَارَةِ الشَّدِيدَتَيْنِ.وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ كَوْنِهِ تَعَالَى لَوْ شَاءَ لَجَعَلَ الْمَاءَ غَيْرَ صَالِحٍ لِلشَّرَابِ- جَاءَ مَعْنَاهُ فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [67: 30]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [23/ 18]، لِأَنَّ الذَّهَابَ بِالْمَاءِ وَجَعْلَهُ غَوْرًا لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ وَجَعْلَهُ أُجَاجًا، كُلُّ ذَلِكَ فِي الْمَعْنَى سَوَاءٌ بِجَامِعِ عَدَمِ تَأَتِّي شُرْبِ الْمَاءِ. وَهَذِهِ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ تَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ حَاجَةِ الْخَلْقِ إِلَى خَالِقِهِمْ كَمَا تَرَى. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ:
{أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ} [56/ 69]، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْمَاءِ السَّاكِنِ فِي الْأَرْضِ النَّابِعِ مِنَ الْعُيُونِ وَالْآبَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، أَنَّ أَصْلَهُ كُلَّهُ نَازِلٌ مِنَ الْمُزْنِ، وَأَنَّ اللَّهَ أَسْكَنَهُ فِي الْأَرْضِ وَخَزَنَهُ فِيهَا لِخَلْقِهِ.وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ} [23/ 18]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ} [39/ 21]، وَقَدْ قَدَّمْنَا هَذَا فِي سُورَةِ الْحِجْرِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} الْآيَةَ [15/ 22]، وَفِي سُورَةِ سَبَأٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} الْآيَةَ [34/ 2]. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ:
{فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ} [56/ 70]، فَلَوْلَا بِمَعْنَى هَلَّا، وَهِيَ حِرَفُ تَحْضِيضٍ، وَهُوَ الطَّلَبُ بِحَثٍّ وَحَضٍّ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُطْلَبُ مِنْهُمْ شُكْرُ هَذَا الْمُنْعِمِ الْعَظِيمِ بِحَثٍّ وَحَضٍّ.وَاعْلَمْ أَنَّ الشُّكْرَ يُطْلَقُ مِنَ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ وَمِنَ الرَّبِّ لِعَبْدِهِ.فَشُكْرُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ يَنْحَصِرُ مَعْنَاهُ فِي اسْتِعْمَالِهِ جَمِيعَ نِعَمِهِ فِيمَا يُرْضِيهِ تَعَالَى. فَشُكْرُ نِعْمَةِ الْعَيْنِ أَلَّا يَنْظُرَ بِهَا إِلَّا مَا يُرْضِي مَنْ خَلَقَهَا، وَهَكَذَا فِي جَمِيعِ الْجَوَارِحِ. وَشُكْرُ نِعْمَةِ الْمَالِ أَنْ يُقِيمَ فِيهِ أَوَامِرَ رَبِّهِ وَيَكُونَ مَعَ ذَلِكَ شَاكِرَ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ. وَشُكْرُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ جَاءَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى هُنَا:
{فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ} [56/ 70]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [2/ 152]، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ.وَأَمَّا شُكْرُ الرَّبِّ لِعَبْدِهِ فَهُوَ أَنْ يُثِيبَهُ الثَّوَابَ الْجَزِيلَ مِنْ عَمَلِهِ الْقَلِيلِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [2/ 158]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
{إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [35/ 34]،إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.تَنْبِيهٌ لُغَوِيٌّ اعْلَمْ أَنَّ مَادَّةَ الشُّكْرِ تَتَعَدَّى إِلَى النِّعْمَةِ تَارَةً، وَإِلَى الْمُنْعِمِ أُخْرَى، فَإِنْ عُدِّيَتْ إِلَى النِّعْمَةِ تَعَدَّتْ إِلَيْهَا بِنَفْسِهَا دُونَ حَرْفِ الْجَرِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} [27/ 19]، وَإِنْ عُدِّيَتْ إِلَى الْمُنْعِمِ تَعَدَّتْ إِلَيْهِ بِحَرْفِ الْجَرِّ الَّذِي هُوَ اللَّامُ كَقَوْلِكَ: نَحْمَدُ اللَّهَ وَنَشْكُرُ لَهُ، وَلَمْ تَأْتِ فِي الْقُرْآنِ مُعَدَّاةً إِلَّا بِاللَّامِ، كَقَوْلِهِ:
{وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [2/ 152]، وَقَوْلِهِ:
{أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [31/ 14]، وَقَوْلِهِ:
{وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [16/ 114]، وَقَوْلِهِ:
{فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [29/ 17]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.وَهَذِهِ هِيَ اللُّغَةُ الْفُصْحَى، وَتَعْدِيَتُهَا لِلْمَفْعُولِ بِدُونِ اللَّامِ لُغَةٌ لَا لَحْنٌ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي نُخَيْلَةَ:
شَكَرْتُكَ إِنَّ الشُّكْرَ حَبْلُ مَنِ اتَّقَى ** وَمَا كُلُّ مَنْ أَوْلَيْتَهُ نِعْمَةً يَقْضِيوَقَوْلُ جَمِيلِ بْنِ مَعْمَرٍ:
خَلِيلَيَّ عُوجَا الْيَوْمَ حَتَّى تُسَلِّمَا ** عَلَى عَذْبَةِ الْأَنْيَابِ طَيِّبَةِ النَّشْرِفَإِنَّكُمَا إِنْ عُجْتُمَا لِيَ سَاعَةً ** شَكَرْتُكُمَا حَتَّى أُغَيَّبَ فِي قَبْرِيوَهَذِهِ الْآيَاتُ مِنْ سُورَةِ الْوَاقِعَةِ قَدْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ اقْتِرَانَ جَوَابِ لَوْ بِاللَّامِ، وَعَدَمَ اقْتِرَانِهِ بِهَا كِلَاهُمَا سَائِغٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ:
{لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} [56/ 65]، بِاللَّامِ ثُمَّ قَالَ:
{لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا} [56/ 70]، بِدُونِهَا.
.تفسير الآيات (71-73):
{أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ}.قَوْلُهُ تَعَالَى:
{الَّتِي تُورُونَ} [56/ 71]، أَيْ تُوقِدُونَهَا مِنْ قَوْلِهِمْ: أَوْرَى النَّارَ إِذَا قَدَحَهَا وَأَوْقَدَهَا، وَالْمَعْنَى: أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُوقِدُونَهَا مِنَ الشَّجَرِ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا الَّتِي تُوقَدُ مِنْهَا، أَيْ أَوْجَدْتُمُوهَا مِنَ الْعَدَمِ؟وَالْجَوَابُ الَّذِي لَا جَوَابَ غَيْرُهُ: أَنْتَ يَا رَبَّنَا هُوَ الَّذِي أَنْشَأْتَ شَجَرَتَهَا، وَنَحْنُ لَا قُدْرَةَ لَنَا بِذَلِكَ فَيُقَالُ: كَيْفَ تُنْكِرُونَ الْبَعْثَ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ مَنْ أَنْشَأَ شَجَرَةَ النَّارِ وَأَخْرَجَهَا مِنْهَا قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ؟وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ كَوْنِ خَلْقِ النَّارِ مِنْ أَدِلَّةِ الْبَعْثِ- جَاءَ مُوَضَّحًا فِي يس فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [36/ 79- 80]. فَقَوْلُهُ فِي آخِرِ يس:
{تُوقِدُونَ} [36/ 80] هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي الْوَاقِعَةِ:
{تُورُونَ} [56/ 71]. وَقَوْلُهُ فِي آيَةِ يس:
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا} [36/ 80]، بَعْدَ قَوْلِهِ:
{يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [36/ 79] دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ خَلْقَ النَّارِ مِنْ أَدِلَّةِ الْبَعْثِ. وَقَوْلُهُ هُنَا:
{أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا} [56/ 72]، أَيِ الشَّجَرَةَ الَّتِي تُوقَدُ مِنْهَا كَالْمَرْخِ وَالْعَفَارِ، وَمِنْ أَمْثَالِ الْعَرَبِ: فِي كُلِّ شَجَرٍ نَارٌ، وَاسْتَنْجِدِ الْمَرْخَ وَالْعَفَارَ، لِأَنَّ الْمَرْخَ وَالْعَفَارَ هُمَا أَكْثَرُ الشَّجَرِ نَصِيبًا فِي اسْتِخْرَاجِ النَّارِ مِنْهُمَا، يَأْخُذُونَ قَضِيبًا مِنَ الْمَرْخِ وَيُحْكِمُونَ بِهِ عُودًا مِنَ الْعَفَارِ فَتَخْرُجُ مِنْ بَيْنِهِمَا النَّارُ، وَيُقَالُ: كُلُّ شَجَرٍ فِيهِ نَارٌ إِلَّا الْعُنَّابَ.وَقَوْلُهُ:
{نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً} [56/ 73] أَيْ نُذَكِّرُ النَّاسَ بِهَا فِي دَارِ الدُّنْيَا إِذَا أَحَسُّوا شِدَّةَ حَرَارَتِهَا- نَارِ الْآخِرَةِ الَّتِي هِيَ أَشَدُّ مِنْهَا حَرًّا لِيَنْزَجِرُوا عَنِ الْأَعْمَالِ الْمُقْتَضِيَةِ لِدُخُولِ النَّارِ، وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ حَرَارَةَ نَارِ الْآخِرَةِ مُضَاعَفَةٌ عَلَى حَرَارَةِ نَارِ الدُّنْيَا سَبْعِينَ مَرَّةً، فَهِيَ تَفُوقُهَا بِتِسْعٍ وَسِتِّينَ ضِعْفًا، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مِثْلُ حَرَارَةِ نَارِ الدُّنْيَا.وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} [56/ 73]، أَيْ مَنْفَعَةً لِلنَّازِلِينَ بِالْقِوَاءِ مِنَ الْأَرْضِ، وَهُوَ الْخَلَاءُ وَالْفَلَاةُ الَّتِي لَيْسَ بِهَا أَحَدٌ، وَهُمُ الْمُسَافِرُونَ، لِأَنَّهُمْ يَنْتَفِعُونَ بِالنَّارِ انْتِفَاعًا عَظِيمًا فِي الِاسْتِدْفَاءِ بِهَا وَالِاسْتِضَاءَةِ وَإِصْلَاحِ الزَّادِ.وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ مِنْ مَوَانِعِ اعْتِبَارِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ- كَوْنَ اللَّفْظِ وَارِدًا لِلِامْتِنَانِ. وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ مَفْهُومًا لِلْمُقْوِينَ، لِأَنَّهُ جِيءَ بِهِ لِلِامْتِنَانِ أَيْ وَهِيَ مَتَاعٌ أَيْضًا لِغَيْرِ الْمُقْوِينَ مِنَ الْحَاضِرِينَ بِالْعُمْرَانِ، وَكُلُّ شَيْءٍ خَلَا مِنَ النَّاسِ يُقَالُ لَهُ أَقْوَى، فَالرِّجَالُ إِذَا كَانَ فِي الْخَلَا قِيلَ لَهُ: أَقْوَى. وَالدَّارُ إِذَا خَلَتْ مِنْ أهْلِهَا قِيلَ لَهَا أَقْوَتْ.وَمِنْهُ قَوْلُ نَابِغَةِ ذُبْيَانَ:
يَا دَارَ مَيَّةَ بِالْعَلْيَاءِ فَالسَّنَدِ ** أَقْوَتْ وَطَالَ عَلَيْهَا سَالِفُ الْأَبَدِوَقَوْلُ عَنْتَرَةَ:
حُيِّيتَ مِنْ طَلَلٍ تَقَادَمَ عَهْدُهُ ** أَقْوَى وَأَقْفَرَ بَعْدَ أُمِّ الْهَيْثَمِوَقِيلَ لِلْمُقْوِينَ: أَيْ لِلْجَائِعِينَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ هُوَ مَا ذَكَرْنَا.قَوْلُهُ تَعَالَى:
{فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ}.قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ النَّجْمِ.
.تفسير الآية رقم (95):
{إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ}.أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَأَكَّدَ إِخْبَارَهُ بِأَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ هُوَ حَقُّ الْيَقِينِ، وَأَمَرَ نَبِيَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَنْ يُسَبِّحَ بِاسْمِ رَبِّهِ الْعَظِيمِ.وَهَذَا الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ ذَكَرَهُ اللَّهُ- جَلَّ وَعَلَا- فِي آخِرِ سُورَةِ الْحَاقَّةِ فِي قَوْلِهِ فِي وَصْفِهِ لِلْقُرْآنِ:
{وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [69- 52]، وَالْحَقُّ هُوَ الْيَقِينُ.وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ إِضَافَةَ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ مَعَ اخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ، وَذَكَرْنَا كَثْرَةَ وُرُودِهِ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَلَدَارُ الْآخِرَةِ} [12/ 109]، وَ:
{لَدَارُ} هِيَ الْآخِرَةُ، وَقَوْلُهُ:
{وَمَكْرَ السَّيِّئِ} [35/ 43]، وَالْمَكْرُ هُوَ السَّيِّئُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ:
{وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [35/ 43].وَقَوْلُهُ:
{مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [50/ 16]، وَالْحَبْلُ هُوَ الْوَرِيدُ، وَقَوْلُهُ:
{شَهْرُ رَمَضَانَ} [2/ 185]، وَالشَّهْرُ هُوَ رَمَضَانُ.وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
كَبِكْرِ الْمُقَانَاةِ الْبِيَاضَ بِصُفْرَةٍ ** غَذَاهَا نَمِيرُ الْمَاءِ غَيْرُ الْمُحَلَّلِوَالْبِكْرُ هِيَ الْمُقَانَاةُ.وَقَوْلُ عَنْتَرَةَ:
وَمِشَكِّ سَابِغَةٍ هَتَكْتُ فُرُوجَهَا ** بِالسَّيْفِ عَنْ حَامِي الْحَقِيقَةِ مُعْلِمِلِأَنَّ مُرَادَهُ بِالْمِشَكِّ هُنَا الدِّرْعُ نَفْسُهَا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: هَتَكْتُ فُرُوجَهَا، يَعْنِي الدِّرْعَ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الْمِشَكِّ لُغَةً السَّيْرَ الَّذِي تُشَدُّ بِهِ الدِّرْعُ، لِأَنَّ السَّيْرَ لَا تُمْكِنُ إِرَادَتُهُ فِي بَيْتِ عَنْتَرَةَ هَذَا خِلَافًا لِمَا ظَنَّهُ صَاحِبُ تَاجِ الْعَرُوسِ، بَلْ مُرَادُ عَنْتَرَةَ بِالْمِشَكِّ الدِّرْعُ، وَأَضَافَهُ إِلَى السَّابِغَةِ الَّتِي هِيَ الدِّرْعُ كَمَا ذَكَرْنَا، وَإِلَى هَذَا يُشِيرُ مَا ذَكَرُوهُ فِي بَابِ الْعَلَمِ، وَعَقَدَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
وَإِنْ يَكُونَا مُفْرَدَيْنِ فَأَضِفْ ** حَتْمًا وَإِلَّا أَتْبِعِ الَّذِي رُدِفَلِأَنَّ الْإِضَافَةَ الْمَذْكُورَةَ مِنْ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ مَعَ اخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِنَا دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ أَنَّ قَوْلَهُ فِي الْخُلَاصَةِ:
وَلَا يُضَافُ اسْمٌ لِمَا بِهِ اتَّحَدْ ** مَعْنًى وَأَوِّلْ مُوهِمًا إِذَا وَرَدْإِنَّ الَّذِي يَظْهَرُ لَنَا مِنِ اسْتِقْرَاءِ الْقُرْآنِ وَالْعَرَبِيَّةِ أَنَّ ذَلِكَ أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ، وَأَنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ كَافٍ فِي الْمُغَايَرَةِ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَى التَّأْوِيلِ مَعَ كَثْرَةِ وُرُودِ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ وَالْعَرَبِيَّةِ.وَيَدُلُّ لَهُ تَصْرِيحُهُمْ بِلُزُومِ إِضَافَةِ الِاسْمِ إِلَى اللَّقَبِ إِنْ كَانَا مُفْرَدَيْنِ نَحْوَ سَعِيدِ كُرْزٍ، لِأَنَّ مَا لَابُدَّ لَهُ مِنْ تَأْوِيلٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هُوَ اللَّازِمَ كَمَا تَرَى، فَكَوْنُهُ أُسْلُوبًا أَظْهَرُ.وَقَوْلُهُ:
{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [56/ 96]، التَّسْبِيحُ: أَصْلُهُ الْإِبْعَادُ عَنِ السُّوءِ، وَتَسْبِيحُ اللَّهِ وَتَنْزِيهُهُ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ، وَذَلِكَ التَّنْزِيهُ وَاجِبٌ لَهُ فِي ذَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ:
{بِاسْمِ رَبِّكَ} [56/ 96] دَاخِلَةٌ عَلَى الْمَفْعُولِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ مَرْيَمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} الْآيَةَ [19/ 25] أَدِلَّةً كَثِيرَةً مِنَ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ عَلَى دُخُولِ الْبَاءِ عَلَى الْمَفْعُولِ الَّذِي يَتَعَدَّى إِلَيْهِ الْفِعْلُ بِنَفْسِهِ، كَقَوْلِهِ:
{وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [19/ 25]، وَالْمَعْنَى: وَهُزِّي جِذْعَ النَّخْلَةِ.وَقَوْلُهُ:
{وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ} [22/ 25]، أَيْ إِلْحَادًا إِلَى آخِرِ مَا قَدَّمْنَا مِنَ الْأَدِلَّةِ الْكَثِيرَةِ، وَعَلَيْهِ فَالْمَعْنَى:
{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْعَظِيمِ كَمَا يُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ فِي الْأَعْلَى سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [87/ 1].وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الِاسْمُ هُنَا بِمَعْنَى الْمُسَمَّى، أَيْ سَبِّحْ رَبَّكَ، وَإِطْلَاقُ الِاسْمِ بِمَعْنَى الْمُسَمَّى مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ:
إِلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلَامِ عَلَيْكُمَا ** وَمَنْ يَبْكِ حَوْلًا كَامِلًا فَقَدِ اعْتَذَرْوَلَا يَلْزَمُ فِي نَظَرِي أَنَّ الِاسْمَ بِمَعْنَى الْمُسَمَّى هُنَا لِإِمْكَانِ كَوْنِ الْمُرَادِ نَفْسَ الِاسْمِ، لِأَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ أَلْحَدَ فِيهَا قَوْمٌ وَنَزَّهَهَا آخَرُونَ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ، وَوَصَفَهَا اللَّهُ بِأَنَّهَا بَالِغَةٌ غَايَةَ الْحُسْنِ، وَفِي ذَلِكَ أَكْمَلُ تَنْزِيهٍ لَهَا لِأَنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى صِفَاتِهِ الْكَرِيمَةِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ:
{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [7/ 180]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [17/ 110].وَلَسْنَا نُرِيدُ أَنْ نَذْكُرَ كَلَامَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الِاسْمِ وَالْمُسَمَّى، هَلِ الِاسْمُ هُوَ الْمُسَمَّى أَوْ لَا؟ لِأَنَّ مُرَادَنَا هُنَا بَيَانُ مَعْنَى الْآيَةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
.سُورَةُ الْحَدِيدِ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
.تفسير الآية رقم (1):
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.قَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّ التَّسْبِيحَ هُوَ تَنْزِيهُ اللَّهِ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ، وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ الْإِبْعَادُ عَنِ السُّوءِ، مِنْ قَوْلِهِمْ سَبَحَ إِذَا صَارَ بَعِيدًا، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْفَرَسِ: سَابِحٌ، لِأَنَّهُ إِذَا جَرَى يَبْعُدُ بِسُرْعَةٍ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عَنْتَرَةَ فِي مُعَلَّقَتِهِ:
إِذْ لَا أَزَالُ عَلَى رِحَالَةِ سَابِحٍ ** نَهْدٍ تَعَاوَرُهُ الْكُمَاةُ مُكَلَّمِوَقَوْلُ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيِّ:
لَا يَغْرِسُونَ فَسِيلَ النَّخْلِ حَوْلَهُمُ ** وَلَا تَخَاوَرُ فِي مَشْتَاهُمُ الْبَقَرُإِلَّا سَوَابِحَ كَالْعِقْبَانِ مُقْرَبَةً ** فِي دَارَةٍ حَوْلَهَا الْأَخْطَارُ وَالْفِكَرُوَهَذَا الْفِعْلُ الَّذِي هُوَ سَبَّحَ قَدْ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ بِدُونِ اللَّامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [33/ 42]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا} [76/ 26]، وَقَدْ يَتَعَدَّى بِاللَّامِ كَقَوْلِهِ هُنَا: سَبَّحَ لِلَّهِ، وَعَلَى هَذَا فَسَبَّحَهُ وَسَبَّحَ لَهُ لُغَتَانِ كَنَصَحَهُ وَنَصَحَ لَهُ. وَشَكَرَهُ وَشَكَرَ لَهُ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ فِي الْآيَةِ وَجْهًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، أَيْ أَحْدَثَ التَّسْبِيحَ لِأَجْلِ اللَّهِ أَيِ ابْتِغَاءَ وَجْهِهِ تَعَالَى، ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَأَبُو حَيَّانَ، وَقِيلَ: سَبَّحَ لِلَّهِ أَيْ صَلَّى لَهُ.وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ التَّسْبِيحَ يُطْلَقُ عَلَى الصَّلَاةِ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُسَبِّحُونَ لِلَّهِ، أَيْ يُنَزِّهُونَهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ- بَيَّنَهُ اللَّهُ- جَلَّ وَعَلَا- فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَشْرِ:
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} الْآيَةَ [59/ 1]، وَقَوْلِهِ فِي الصَّفِّ:
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} الْآيَةَ [61/ 1]، وَقَوْلِهِ فِي الْجُمُعَةِ:
{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} الْآيَةَ [62/ 1]، وَقَوْلِهِ فِي التَّغَابُنِ:
{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} الْآيَةَ [64/ 1].وَزَادَ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرْضَ يُسَبِّحْنَ لِلَّهِ مَعَ مَا فِيهِمَا مِنَ الْخَلْقِ وَأَنَّ تَسْبِيحَ السَّمَاوَاتِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْجَمَادَاتِ يَعْلَمُهُ اللَّهُ وَنَحْنُ لَا نَفْقَهُهُ أَيْ لَا نَفْهَمُهُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [17/ 44]، وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّ تَسْبِيحَ الْجَمَادَاتِ الْمَذْكُورَ فِيهَا وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ} [21/ 79]، وَنَحْوِ ذَلِكَ تَسْبِيحٌ حَقِيقِيٌّ يَعْلَمُهُ اللَّهُ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُهُ.وَالْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فِيهَا الرَّدُّ الصَّرِيحُ عَلَى مَنْ زَعَمَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ تَسْبِيحَ الْجَمَادَاتِ هُوَ دَلَالَةُ إِيجَادِهَا عَلَى قُدْرَةِ خَالِقِهَا، لِأَنَّ دَلَالَةَ الْكَائِنَاتِ عَلَى عَظَمَةِ خَالِقِهَا يَفْهَمُهَا كُلُّ الْعُقَلَاءِ، كَمَا صَرَّحَ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ إِلَى قَوْلِهِ:
{لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [2/ 164]، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ.وَقَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَ هَذَا فِي سُورَةِ الرَّعْدِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} الْآيَةَ [13/ 15]، وَفِي سُورَةِ الْكَهْفِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} الْآيَةَ [18/ 77]، وَفِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} الْآيَةَ [23/ 72]، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ.وَقَدْ عَبَّرَ تَعَالَى هُنَا فِي أَوَّلِ الْحَدِيدِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي فِي قَوْلِهِ:
{سَبَّحَ لِلَّهِ} الْآيَةَ [57/ 1]، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي الْحَشْرِ، وَالصَّفِّ، وَعَبَّرَ فِي الْجُمُعَةِ وَالتَّغَابُنِ، وَغَيْرِهِمَا بِقَوْلِهِ: يُسَبِّحُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ.قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّمَا عَبَّرَ بِالْمَاضِي تَارَةً وَبِالْمُضَارِعِ أُخْرَى لِيُبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ التَّسْبِيحَ لِلَّهِ هُوَ شَأْنُ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَأَهْلِ الْأَرْضِ، وَدَأْبُهُمْ فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ. ذَكَرَ مَعْنَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَأَبُو حَيَّانَ.وَقَوْلُهُ:
{وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [57/ 1]، قَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَاهُ مِرَارًا، وَذَكَرْنَا أَنَّ الْعَزِيزَ هُوَ الْغَالِبُ الَّذِي لَا يَغْلِبُهُ شَيْءٌ، وَأَنَّ الْعِزَّةَ هِيَ الْغَلَبَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ:
{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ} [63/ 8]، وَقَوْلُهُ: وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ، أَيْ: غَلَبَنِي فِي الْخِصَامِ، وَمِنْ أمْثَالِ الْعَرَبِ: مَنْ عَزَّ بَزَّ، يَعْنُونَ: مَنْ غَلَبَ اسْتَلَبَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْخَنْسَاءِ:
كَأَنْ لَمْ يَكُونُوا حِمًى يُخْتَشَى ** إِذِ النَّاسُ إِذْ ذَاكَ مَنْ عَزَّ بَزَّاوَالْحَكِيمُ: هُوَ مَنْ يَضَعُ الْأُمُورَ فِي مَوَاضِعِهَا وَيُوقِعُهَا فِي مَوَاقِعِهَا.وَقَوْلُهُ:
{مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [57/ 1]، غُلِّبَ فِيهِ غَيْرُ الْعَاقِلِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُ تَعَالَى تَارَةً يُغَلِّبُ غَيْرَ الْعَاقِلِ، فِي نَحْوِ:
{مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} لِكَثْرَتِهِ، وَتَارَةً يُغَلِّبُ الْعَاقِلَ لِأَهَمِّيَّتِهِ. وَقَدْ جَمَعَ الْمِثَالُ لِلْأَمْرَيْنِ، قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْبَقَرَةِ:
{بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} الْآيَةَ [2/ 116]، فَغَلَّبَ غَيْرَ الْعَاقِلِ فِي قَوْلِهِ: مَا فِي السَّمَاوَاتِ، وَغَلَّبَ الْعَاقِلَ فِي قَوْلِهِ: قَانِتُونَ.
.تفسير الآية رقم (4):
{هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}.قَوْلُهُ:
{فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [57/ 4]، قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ الْآيَاتِ} [9/ 12]، وَفِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} الْآيَةَ [7/ 54].وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [57/ 4]، قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ بِكَثْرَةٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} الْآيَةَ [7/ 54]، وَذَكَرْنَا طَرَفًا صَالِحًا مِنْ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْقِتَالِ فِي كَلَامِنَا الطَّوِيلِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [47/ 24].قَوْلُهُ تَعَالَى:
{يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا}. قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ سَبَأٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} الْآيَةَ [34/ 2].قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ}.قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ وَبَيَّنَّا الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى الْمَعِيَّةِ الْعَامَّةِ وَالْمَعِيَّةِ الْخَاصَّةِ، مَعَ بَيَانِ مَعْنَى الْمَعِيَّةِ فِي آخِرِ سُورَةِ النَّحْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} الْآيَةَ [16/ 128].
.تفسير الآية رقم (9):
{هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}. ذَكَرَ- جَلَّ وَعَلَا- فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ، أَيْ وَاضِحَاتٍ. وَهِيَ هَذَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ؛ لِيُخْرِجَ النَّاسَ بِهَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، مِنَ الظُّلُمَاتِ: أَيْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي إِلَى نُورِ التَّوْحِيدِ وَالْهُدَى، وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَ مُبَيَّنَّا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الطَّلَاقِ:
{فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ الْآيَتَانِ} [65/ 10- 11]، وَآيَةُ الطَّلَاقِ هَذِهِ بَيَّنَتْ أَنَّ آيَةَ الْحَدِيدِ مِنَ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ، وَأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ بِهَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ إِلَّا مَنْ وَفَّقَهُمُ اللَّهُ لِلْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيدِ:
{لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ} [57/ 9]، أَيْ بِشَرْطِ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ:
{لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ} الْآيَةَ [65/ 11].فَالدَّعْوَةُ إِلَى الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ وَالْخُرُوجِ بِنُورِهِ مِنْ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ عَامَّةٌ، وَلَكِنَّ التَّوْفِيقَ إِلَى الْخُرُوجِ بِهِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ خَاصٌّ بِمَنْ وَفَّقَهُمُ اللَّهُ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتُ الطَّلَاقِ الْمَذْكُورَةُ، وَاللَّهُ- جَلَّ وَعَلَا- يَقُولُ:
{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [10/ 25].وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ كَوْنِ الْقُرْآنِ نُورًا يُخْرِجُ اللَّهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} [4/ 174]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [5/ 15- 16]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا} [64/ 8]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [7/ 157]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} الْآيَةَ [42/ 52].قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}.قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا} الْآيَةَ [19/ 40].قَوْلُهُ تَعَالَى:
{يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.ذَكَرَ- جَلَّ وَعَلَا- فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ، وَهُوَ جَمْعُ يَمِينٍ، وَأَنَّهُمْ يُقَالُ لَهُمْ:
{بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [57/ 12].وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِمَّا ذَكَرْنَا- جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، أَمَّا سَعْيُ نُورِهِمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ، فَقَدْ بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ، وَزَادَ فِيهَا بَيَانَ دُعَائِهِمُ الَّذِينَ يَدْعُونَ بِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} الْآيَةَ [66/ 8].وَأَمَّا تَبْشِيرُهُمْ بِالْجَنَّاتِ فَقَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، وَبَيَّنَ اللَّهُ فِيهَا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تُبَشِّرُهُمْ وَأَنَّ رَبَّهُمْ أَيْضًا يُبَشِّرُهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [9/ 21- 22]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} إِلَى قَوْلِهِ:
{نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [41: 30- 32]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.